Monday, October 11, 2010

شذوذ الأدباء


الناس متفقون على أن الأديب على العموم ، والشاعر على الخصوص،
صنو المجنون ونده وقريعه، وقد لا يقولون ذلك بألسنتهم ولكنهم يقولونه بسلوكهم
نحوه، فهم يفرضون فيه الشذوذ عن المألوف ويتوقعونه ولا يستغربونه ويحملون
كل ما يصدر عنه على هذا المحمل ويردونه إلى هذا الأصل عندهم، وليس في هذا
إكبار منهم له، فإنه بسبيل من سلوكهم نحو صنوف الملتاثين الذي يطلقون عليهم وصف
"المجاذيب" كلا الفريقين مقبول عندهم على التسامح والعطف والمرئية، ولو أن الناس رأوا
رجلا يلبس ثيابه مقلوبة، أو يمشي على رأسه وقيل لهم أنه شاعر لاقتنعوا ولبطل العجب،
كأن المشي على الرأس شيء يوائم الشاعرية أو هو مما تستلزمه حين يزخر عبابها.

عرّفني مرة أحد الأخوان باثنين من الأعيان كانا معه في مجلس فكان مما وصفني
لهما به أني شاعر فابرقت أساريرهما وغمر البشر وجهيهما واستغنيا عن "تشرفنا"
واعتاضا منها "ما شاء الله" و"سحان الفتاح" وأقبل علي أحدهما يربت لي ظهري
ويمسحه لي بكف كمضرب الكرة ويقول: "اسمعنا شيئا" كأنما كنت مغنيا على الربابة
ولو أني كنت لاستحييت أن أجيبهما إلى ما طلبا على قارعة الطريق ولشد ما خفت-
وهما يلحان علي- أن يمد أحدهما يده إلي بقرش.
وقد يتفق لي أن أكون مع جماعة من الأخوان فافضي بالملاحظة أو الفكرة أحسبني وفقت فيها
وكشفت عن أستاذية وبراعة ودقة فلا أكاد أفرغ منها أسمع من أحدهم أن هذا "خيال شاعر" وليته
مع ذلك يعني شيئا سوى الفوضى والهذيان وقد أسكت وأشغل نفسي عنهم بشيء أفكر فيه فانتبه
على التغامز.

والبلاء والداء العياء أن المرء يتحرى أن يجعل سلوكه مطابقا على أدق
وجه للعرف والعادة في كل صغيرة وكبيرة فلا يرى أن هذا يزيده إلا شذوذا
في رأيهم. كان هذا الشذوذ المفروض فيه يبيح لهم أن يشذوا هم معه.
كنتُ ليلة مستغرقا في النوم- ولعلي كنتُ أغط أيضا. وإذا بالباب يقرع كأن
الواقف به قد استقر عزمه على تحطيمه، ففزعت وقمت إلى النافذة أسأل عن
هذا الطارق فقال فلان . فحل العجب والحيرة محل الفزع، ولم يكن فلان هذا
ممن أتوقع زيارتهم في النهار فضلا عن الليل، وفي الصيف فضلا عن الشتاء
ببرده القارس ومطره المنهمر وكانت الساعة الثانية بعد نصف الليل ، فلولا دهشة المفاجأة
ولحاجة الرغبة في الوقوف على سر هذه الزيارة المزعجة لقذفته من النافذة بكل ما في الغرفة
من أحذية ومخدات بل لفككت السرير وهشمت له رأسه بأعمدته- من النافذة أيضا ، فقد كان ذلك
كله من أثقل خلق الله.

ونزلت إليه والمصباح في يدي وفتحت الباب ووقفت في مدخله " حجر عثرة"
في سبيله ويودي لو أستطيع أن أكون " حجرة منية" فجرى بيننا هذا الحديث:

هو: ليلتك سعيدة.
أنا (مصححا) – نهارك سعيد.
هو : آه صحيح .. نهارك سعيد، هل كنت نائما؟
أنا : نائما؟ وماذا كنتَ تظنني فاعلا غير ذلك؟ّ
أكنتَ تتوهم أنني هنا حارس؟
هو : هاهاهاهاهاها.
أنا : ها ها؟ ماذا تعني بهاهاك هذه؟ ألا تشعر أن من واجبك
أن تبين لي السبب في إزعاجي في ساعة كهذه؟ ألا ترى أن ها ها
التي تملأ بها طباق الجو لا تكفي وأن خيرا لك أن تضم فكيك قليلا
وتتكلم بلغة مفهومة؟
هو: لقد كنت أظن أنك ..
أنا : كنت تظن ماذا؟
هو (وعلى وجهه ابتسامة جعلته كـ جمجمة الميت) : لم يخطر
لي والله أنك نائم.
أنا (بصوت هادئ ولهجة مرة) : ولماذا بالله؟
فترك الجواب على هذا وقال : لستُ أستغرب أن تتركني واقفا بالباب
في هذا البرد وإن كنتَ قد قطعت إليك أربعة كيلو مترات مشيا على قدمي، فإن لكم
معاشر الشعراء لأطوارا وبدوات غير مأمونة.
فأطار صوابي تحميله إياي اللوم على ذنبه ولم أعد أحفل أهو أقوى مني أو اضعف
فقبضت على عنقه وصحت به.
لقد كان ينبغي أن تمشي إلى جهنم ، وسأدفنك حيا إذا رأيتك هنا ليلا أو نهارا أسمعت؟
ودفعته عنّي فانطلق يعدو كالقنبلة.

وثم من يراني أنسى شيئا أو أضعه في غير موضعه أو أهمل أمرا أو أطيل الصمت أو أفعل حتى
ما يفعله الناس .. آكل أو أشرب أو أنام ، إلا أحالوا على الأدب وتخيلوا فيما أنا فاعل أو تارك شذوذا
ملحوظا حتى ضقت ذرعا بهذه الحال وصار وكدي أن أقنع كل من يتيسر لي اقناعه
أني لستُ بالأديب ، وأن قرض الشعر لم يكن منّي إلا لهوا وتسلية ، وعسى أن أكون أفلحت
فليس أمض للإنسان من أن يرى الناس يعدونه غير مسئول



----------



مقالة للأستاذ الأديب إبراهيم عبد القادر المازني ، نقلتها من كتابه صندوق الدنيا ،
و هي إهداء إلى صديقتي عواصف ، أتمنى أنّ أكون قد وفقتُ في إجابة سؤالِك .

دمتم لمن تحبوا ...

روميه فهد

12 comments:

حنان الحبشي said...

جميلة المقالة .. صندوق الدنيا؟ أول مرة أسمع فيه

شنو معنى صنو ؟ صنو المجنون

وبالمره شنو سؤال عواصف :p

شهرزاد said...

اختي رومية
اختيار موفق اعجبتني هذه المقالة جدا
مع كل الود

~حَدِيـثُ الفَـجْـر~ said...

مقال رائع
شكرا لك ..
ونعم الاختيار ياروميه

كوني بخير
^_^

شقران said...

الغالية روميـه فهد

مساء الليليوم
:)

قرأت السطر الأول فهَمَمت للذي بعده..وهكذا ، وكلما انهيت سطراً زاد الغموض

الغموض ليس مرده ما أقرأ من مفردات ومعاني فهي مفهومة ولكن الغموض كان بهذا الإجتزاء بالذات

ولكن عندما وصلت الخاتمة عرفت أن ماكتبتيه جواب لسؤال...إذاً كان من الطبيعي أن يزداد الغموض عندي بعد كل سطر بسبب غياب السؤال
:)



استمتعت بمفردات النص المنتقاة بعناية منك...فالاقتباس فن لايتقنه الكثيرون


لكِ مني أجمل وزعذب تحايا المساء

أبو فارس said...

استاذتنا
لقد تعلمنا منك الكثير
وحان الوقت لكي نرفع لك القبعات ونحني الرؤس لأناملك ولقلمك المميز .
اختيار موفق.
ولك الود بحجم جبل موسي

Romia Fahed said...

حياالله حنان ..
صندوق الدنيا هو كتاب يضم مجموعة مقالات رائعة للمازني بأسلوبه الفذ والمحبب لي .

صنو = مثيله \ شبيه

واستخدام الرمز
( :P )

سؤال عواصف : لماذا ابتعدت عن المشاركة في المنتديات الأدبية وتوقفتُ عن الاشتراك في أخرى .
ناهيك عن أنّها خنقتني بأسلة(لماذا)
في حوارنا كـ لماذا أكره نعتي بالكاتبة
ولماذا لا أعطي للكتابة حقها
ولماذا حياديتي في موقف ما
ولماذا أتعمد عدم التطوير..
ووو

وما علينا...نبيج سالمة : )

دمتِ لمن تحبي

Romia Fahed said...

سعيدة أنّها أعجبتكِ
أختي الجميلة شهرزاد

دمتِ لمن تحبي

Romia Fahed said...

حيا الله حديث الفجر ...

سعيدة أنّها نالت استحسانكِ عزيزتي

دمتِ لمن تحبي

Romia Fahed said...

شيخ المدوننين شقران

ولا يلام طبعا على اجتراء الذات
لطالما فسر!و تحركات الكاتب أو الشاعر
بحياة استثنائية .

والسؤال أيها القدير ، في ردي على العزيزة حنان

دمتَ لمن تحبي معطرا بالخزامي وأكثر

Romia Fahed said...

العزيز أبو فارس...

أخجلتني بكلماتك النبيلة وهي ليست بالغريبة على روحك الطيبة

دمتَ لمن تحب

Engineer A said...

مقال ممتاز واختيار موفق منكِ عزيزتي

مودتي :)

Romia Fahed said...

تسلمين مهندستنا
كل التوفيق في كتابكِ الجديد

دمتِ لمن تحبي